التحليل السياسي لحديث: " ألا تستنصر لنا "
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فعن خَبّاب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا، فَقَال -صلى الله عليه وسلم-: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"[1].
ومن خلال القراءة السياسية لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإمعان النظر في تفصيلاته للوصول لتحليل سياسي يتضمن أهم الأسباب والأهداف التي من أجلها وبموجبها صدر هذا التصريح الكبير والمهم عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فنجد أنَّ فيه:
1- إيصال رسالة للمواطنين المنتمين حديثًا للإسلام (كمنهج سيُغيِّر مسار الحياة على وجه الأرض بالكامل)، تقول: إن المرحلة القادمة مرحلة صعبة وشاقة وخطيرة، سيستشيط خلالها الأعداء من الكفار والمشركين غضبًا، وربما استشاط غيرهم، وسيستخدمون كافة الوسائل المتاحة وربما استوردوا أساليب أخرى، لمنع الفكر الجديد من الاتساع وتحقيق أهدافه، هذا واقع الحال، فمن يرغب بالاستمرار فسيكون على هذا الأساس وقد أحيط علمًا، وإلا فليجد له طريقًا آخر.
فطريق تغيير المجتمعات ونشر الفكر الخلاق وعلى مستوى الأرض كلها، لن يكون مفروشًا بالزهور بل على العكس كما تضمن الحديث ذلك.
وفي عالم السياسة تحديدًا فإن الناس تصطدم دائمًا بتجار السياسة وقاطفي المنافع، وعلى ضوء ذلك فالمنهج الجديد سيضطر من غير اختيار أن يصطدم بهذا النوع من الانتهازيين، وهم أصحاب المصالح الشخصية.
وقد اختار النبيُّ محمد -صلى الله عليه وسلم- أشد أنواع التنكيل وأقساها ليوصلها صورة نقية - من غير تشويش - إلى تابعيه، بوضوح وبشفافية تامة، كنموذج عن الآتي في قابل الأيام، فيقول لهم: (فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه)، حتى لا يُبقي للمتلقين من مواطنيه وأتباعه أي شك أو تأويل لنوعية المشقة التي سيكابدونها في المستقبل.
على عكس سياسة المصالح والتي تَكسِبُ رجالها بإغرائهم ووعدهم بمنحهم الامتيازات والأموال والمناصب، وربما تُشترى أصوات الناس بهذه الطريقة السمجة الرخيصة.
2- أنَّ استلام دفة قيادة الناس وامتلاك زمام الأمور وخاصة السياسية منها، لن يحصل ولن يكون مالم يُدفع ثمن ذلك، وما لم يُمتحن من يسير بهذا الاتجاه امتحانًا شاقًا وعسيرًا، قال تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2-3]، فبعكس ذلك سيكون من يمسك زمام الأمور مترفًا فكريًا وسياسيًا، وسيُقدَمُ له النصر على طبق من ذهب ومن غير ثمن، فسيكون من الصعوبة المحافظة على المكاسب ومن السهل التفريط بها.
وفي الحديث الحثُّ على العزائم والتمسك بها، على الرغم من توفر الفرص والمنح والرخص، ولكن العزيمة في كل الأحوال أفضل، وإن كان معها العذاب والتنكيل أو ربما الموت، لأن الأمر يتعلق بنشر منهج وفكر وإيصال رسالة، وتغيير مجتمع من الوجوه كافة، وقيادة الناس وبناء أمة.
جاء في تفسير الحديث:
(أجمع العلماء أن من أُكره على الكفر فاختار ال***، أنه أعظم أجرًا عند الله ممن اختار الرخصة، واختلفوا فيمن أُكره على غير الكفر من فعل ما لا يحل له فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدة في ذلك، واختيار ال*** والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة)[2].
فالعقائد الراسخة والمناهج العظيمة والأفكار الرصينة تحتاج إلى عَرق يُصبُّ ودماء تُراق لتُبنى بها لَبِنات الدولة القادمة.
3- في طريق منهج التغيير القادم وبناء المجتمع وتأسيس دولة متحضرة بمنظومة قيم راقية، لاشك ستكون معية الله سبحانه وتعالى حاضرة، ولكن نصرة الله ومعيته لن تأتي قبل إثبات صدق النوايا والتميز بعمل دؤوب لأجل القضية من قبل الأفراد وتقديم ما يُثبت ذلك، فالله سبحانه وتعالى يأمرنا بالأخذ بكل الأسباب الدنيوية المتاحة.
وهنا لابد من الانتباه أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- جالس في ظل الكعبة، والكعبة بيت الله سبحانه وتعالى ولو دعا الله سبحانه وتعالى، وشاء الله أن يستجيب لقال سبحانه وتعالى لكل شيء كن فكان، وإن الأمر على الله سبحانه وتعالى هين هين، لكن الأمر ليس كذلك فلابد من المثابرة والعمل الدؤوب قبل ذلك.
لقد كانت فترة الامتحان والعذاب والشدة ثلاث عشرة سنة، وهي فترة طويلة، ذاق فيها المسلمون أصحاب العقيدة الراسخة أهل الله سبحانه وتعالى وأصحاب وأحباب رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ألوانًا من العذاب ما لا يتحمله إنسان، وعانوا من آلام رهيبة، كان عزاؤهم أن كل ذلك كان في ذات الله جل في علاه، ثم إذن الله سبحانه وتعالى بأن تقام دولة الإسلام، ورغم هذا الفتح المبين والنصر العظيم إلا أن فترة وجود الدولة لم تخلو من الآلام والمحن والمشقة والتعب.
4- الربط الذهني للأفراد (الذين يمثلون شعب الدولة الإسلامية في المستقبل) بأن الجغرافية السياسية للمنطقة ستتغير، ولن يتوقف أمر الأمة الإسلامية عند حدود مكة أو حتى جزيرة العرب.
فالمغزى هنا هو في تغيير توجيه أو (توجه) التفكير عند المواطن المسلم بالمفهوم السياسي الجديد الذي يفتح للعقل آفاقًا جديدة تحرره من نظرته السابقة من أن مكة مركزًا دينيًا وتجاريًا مرموقًا فحسب، بل تحول تفكيره بالكامل وتحركه باتجاه مفهوم جديد هو مفهوم تأسيس الدولة وفكرة عالميتها.
5- في مسيرة عمل بناء الدولة لابد من تسمية الأهداف الاستراتيجية، بشكل واضح لا يقبل اللبس ولا الخلط، فوضوح ودقة تحديد الأهداف ستعين العاملين فيها على التركيز على أهدافهم وستكون الضمانة لعدم تشتتهم.
لقد أوضح الحديث بكل صراحة: (ليتمنَّ الله هذا الأمر)، فالأهداف ستتحقق، ولكن الداء الخطير في السياسة هو استعجال تحقيق الأهداف (لكنكم تستعجلون)، فالرسالة هنا هي أن الطريق طويل وشائك وشاق، ولكن مع الصبر والعمل بمثابرة ستتحقق الأهداف.
6- اختيار مدينتي صنعاء[3] وحضرموت تحديدًا في الحديث له بعده السياسي أيضًا، فأما ما يخص صنعاء فلابد من الإيضاح أن هناك صنعاء اليمن وصنعاء الشام، وهما معروفتان عند العرب حينئذ.
فحين يتعلق مراد رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- في حديثه بصنعاء اليمن، فيمكن تحليل الأمر على الوجوه الآتية:
• كما هو معروف أنهما جزء من دولة اليمن في السابق وحاليًا (المقصود صنعاء وحضرموت)، وكانت اليمن تدين بالولاء لأعظم إمبراطورية على وجه الأرض في ذلك الزمان وهي الإمبراطورية الفارسية، ففي الحديث إشارة وتحرك سياسي بأننا سنقترب من هذه الإمبراطوريات العظمى ونفتحها لأننا أعظم قدرًا وأصدق رسالة منها، وسيصل الإسلام إليها بعز عزيز أو بذل ذليل.
• بُعد المسافة بين صنعاء وأقوام حضرموت، فبينهما بحدود 770 كيلومترًا وكانت أرض خطرة في ذلك الوقت، ففي الحديث إشارة لحجم الأمن والعدل الذي سيسود الأرض تحت راية سلطان الدولة الإسلامية.
• إن اليمن تقع ضمن الجزيرة العربية وهي جزء منها، وقد نشأت فيها حضارات عريقة ومشهورة وخاصة صنعاء وحضرموت فقد كانت محطة لدول لها تاريخها، كدولة سبأ ومعين وحمير قبل الإسلام.
• قال القزويني في "آثار البلاد وأخبار العباد" في حق صنعاء: "قصبة بلاد اليمن، أحسن مدنها بناء وأصحها هواء وأعذبها ماء، وأطيبها تربة وأقلها أمراضًا، ذكر أن الماء إذا رش في بيوتها تفوح منه رائحة العنبر، وهي قليلة الآفات والعلل، قليلة الذباب والهوام.
إذا اعتل إنسان في غيرها ونقل إليها يبرأ، وإذا اعتلت الإبل وأرعيت في مروجها تصح، واللحم يبقى بها أسبوعًا لا يفسد".
وكان العرب يرون أن صنعاء وهي المدينة العظمى التي ينزلها الولاة وأشراف العرب، وهي مدينة كبيرة حسنة العمارة، بناؤها بالآجر والجص، وهي كثيرة الخيرات متصلة العمارات كثيرة الحصون والقصور[4] وليس في بلاد اليمن أقدم منها عهدًا ولا أكبر قطرًا ولا أكثر ناسًا و اشتهرت بالصناعات.
• أما حضرموت فقد (( بلغ الحضرميون في المدنية والحضارة مبلغًا ليس في عهدهم مثيل، فقد بنوا القصور الشاهقة وعمروا المدن الواسعة، ووضعوا الهياكل والتماثيل واحتفروا الترع والسواقي، وأنشأوا السدود الضخمة يحجزون بها المياه ويسقون المرتفعات من الأرض والمنخفضات منها، وعبدوا الشوارع واغترسوا الحدائق والبساتين، وكانوا في ترف ونعيم ولباسهم في أفخر الأنسجة، ورياشهم من الحرير، وآنيتهم محلاة بالذهب، وأثاثهم مزين بالذهب والفضة والجواهر))[5].
• فتكون الرسالة بأن هذا المجد القديم سيعود مرة أخرى للعرب ولكن بالإسلام وتحت رايته هذه المرَّة، كما أن هناك جزءًا من الرسالة يتعلق بالمواطن المسلم بأن يتحرر من فكرة الانغماس في رمال الجزيرة العربية وأن يغير استراتيجية التفكير نحو بناء مدن حضارية كصنعاء وحضرموت وما فيها من تقدم وعمران وصناعات وحرف.
• وحين يكون المراد في الحديث صنعاء الشام[6]، (وهو الأرجح عندي)، فالتحليل يذهب باتجاه المسافة الشاسعة، فمن أدنى جنوب الجزيرة العربية (صنعاء) إلى أقصى شمالها (الشام) وهي مشارف بلاد الروم، فهذا يعني أن سلطان الإسلام سيمتد ليطأ سلطان فارس والروم ويمتد معه الأمن والاطمئنان للبلاد.
7- إنَّ المشروع الجديد للتغير متمثلًا بالإسلام، سيمر بمرحلة صراع طويل مع الفكر القديم وهذه سنة كونية، فالتجديد يُحارب في كل زمان ومكان، ولابد للمسلمين من التهيؤ والنجاح في (إدارة الصراع) بالطريقة التي يقررونها وأن النتيجة ستكون في حينها لصالحهم، وفي إدارة الصراع لابد من حساب للتضحيات، وبعكسه فإن امتلاك الخصم لأدوات الصراع سيحسم الأمر لصالحه.
8- المخاطب في هذا الحديث هو خَبّاب بن الأرت[7] رضي الله عنه وهو من المستضعفين والفقراء والمأسورين في مكة، فليس له عشيرة تدافع عنه، وهو ممن كان يُعذب عذابًا شديدًا، فالخطاب له ولنظرائه وليس للكبار والأغنياء والوجهاء، يقول لهم: أيها المستضعفون، أيها الفقراء؛ ستدول لكم الأيام عما قريب وتعلن دولتكم، لأن منهجكم هو الصحيح وإنكم على الطريق الصواب والحق والعاقبة لكم، ولن يضركم فقركم وعوزكم ورقكم وضعفكم فالمنهج الجديد يضع هذه المفاهيم وراءه ظهريًا، فالإيمان بالله سبحانه وتعالى والعمل بالمبادئ هو سبيل النصر، فلا تستعجلون.
والخطاب مثل ما كان موجهًا للضعفاء الموالين فهو موجه للأعداء المحاربين، بأن المسلمين أصحاب قضية، ولهم أهداف ستتحقق في المستقبل، ولن يكون ال***** أو الترهيب أو الترويع الذي يمارسونه ضد المسلمين سببًا في تراجعهم عن قضيتهم.
[1] صحيح البخاري - كتاب الإكراه - باب من اختار الضرب وال*** والهوان على الكفر.
[2] شرح صحيح البخاري، ابن بطال، كتاب الإكراه، ج8، صفحة 294.
[3] سميت صنعاء لأنها (صنعة) أي منيعة.
[4] قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: " كان فيها قصور مشهورة، كقصر المملكة قصر زيدان، وقصر شوحطان، و قصر كوكيان، وكان لمدينة صنعاء تسع أبواب."
[5] تاريخ حضرموت السياسي، صلاح عبد القادر البكري، ج1، ص 39.
[6] جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي: صنعاء: "وهي قرية على باب دمشق من قرى غوطة دمشق، خربت اليوم". وكانت صنعاء الشام ولاية من ولايات الدولة على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وله عليها عامل هو ثُمامة بن عدي القرشي رضي الله عنه.
[7] جاء في الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبدالبر :خباب بن الأرت؛ اختلف في نسبه فقيل هو خزاعي وقيل هو تميمي ولم يختلف أنه حليف لبني زهرة، والصحيح أنه تميمي النسب لحقه سباء في الجاهلية فاشترته امرأة من خزاعة وأعتقته، وكانت من حلفاء بني عوف بن عبدعوف بن عبدالحارث بن زهرة، فهو تميمي بالنسب خزاعي بالولاء، زهري بالحلف، وهو خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، كان رضي الله عنه قيناً (حداداً) يعمل السيوف في الجاهلية، فأصابه سباء فبيع بمكة فاشترته أم أنمار بنت سباع الخزاعية، وقد قيل: هو مولى ثابت بن أم أنمار، ولكنه انتمى إلى حلفاء أمه من بني زهرة